لماذا يتكلم السيد المسيح –العبراني الجذور – اللغة الآرامية

بحث مبسط في اللغة الآرامية و تاريخ الممالك الآرامية
إعداد واختصار : صبحي بشارة
اللغة الآرامية هي واحدة من مجموعة لغات إتفق العلماء على أن يطلقو عليها اسم اللغات السامية, وقد تم تقسيم اللغات السامية الى قسمين: شمالي وجنوبي
القسم الشمالي ينقسم بدوره الى شعبتين:
شرقية: وتشتمل على على اللغة الأكادية بقسميها البابلية والآشورية
وغربية: وتشتمل على اللغة الأجريتية (لغة نقوش رأس شمرا) بلإضافة الى الفينيقية والعبرية و الآرامية.
أما القسم الجنوبي فهو يضم اللغة العربية ولغة نقوش بلاد العرب الجنوبية بالإضافة الى اللغات السامية الموجودة في بلاد الحبشة.
يعتبر الآراميون ثالث فرع نبت في شجرة الأمم السامية بعد الأموريين والكنعانيين ومن بعد الآراميين يأتي العبريين الشعب السامي الرابع, وقد ورد ذكرهم في التاريخ للمرة الأولى في نصوص إسفينية ترجع الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد ويذكر فيها انهم منتشرون في الصحراء الواقعة غربي منطقة ما بين النهرين (تاريخ الأدب السرياني – د. كامل مراد – جامعة القاهرة).
أما فيليب حتى , فقد ذكر في كتابه تاريخ سوريا وفلسطين ولبنان – أن الآراميين كانوا قبائل من الرحل في بادية شمالي الجزيرة العربية, ومع انتصاف الألف الثاني قبل الميلاد كانت هذه القبائل قد سكنت ضفاف وادي الفرات الأوسط, حيث نشأت لغتها وقوميها. ويمكن الإعتقاد أن الآرامية أتت من لهجة سامية غربية كانت مستعملة في شمالي غرب بلاد الرافدين في النصف الأول من الألف الثاني ق.م. ولم يكتسبو اسمهم ( الآراميين ) حتى أيام ( تفلات فلاسر الأول )- الآشوري – 1100 ق.م, حين أقاموا في المنطقة الممتدة بين الفرات الأوسط حتى سوريا في الغرب.
ومن خلال المدونات البابلية والآشورية يستدل أن الآراميين قبل حملهم لهذا الاسم كانو يسمون بالـ ( خابيرو ) وأيضا الـ ( أخلامو ) والتي تعني ( الرفاق ), والتي أطلقها الأموريين للمرة الأولى على اتحاد من القبائل, والتي تبين لاحقا من خلال ربط الوثائق ودراستها انهم هم الآراميين ذاتهم وكمثال على ذلك : رسالة من الفرعون ( حتوشلش ) في العام 1275 ق.م إلى أحد ملوك بابل إشارة إلى الأخلامو المعادين الذين يقيمون على طول نهر الفرات, وفي نفس الفترة يصفهم ( تفلات فلاسر الأول ) وخلفاؤه بعبارة (Mat Arimi) والتي تعني بلاد الآراميين.
يستدل من المدونات الآشورية والبابلية وغيرها أن ضغط القبائل الآرامية المتواصل على مدى عقود أدى الى طغيانهم التدريجي على الأموريين والحوريين والحثيين في وادي العاصي وشماله ثم اصبحت دمشق مركزا لدولة آرامية في العام 1200 ق.م. فاقتبسو حضارة الأموريين والكنعانيين لأنهم كامو يقيمون بينهم فتمثلو مظاهر حظارتهم وتشربوها .. ولكنهم احتفظو بمظهر واحد من مظاهر حضارتهم الأصلية ..وهو (( اللغة )) والتي قدر لها أن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة غربي آسيا فيما بعد, ولا بد هنا من الذكر مع عدم الدخول بالتفاصيل – مع أهميتها – أن الآراميين ( بحسب فيليب حتى) كانو مجموعة دول وليس دولة واحدة,فقد سميت إحداها آرام النهرين (Aram Naharain) والنهران المقصودان هنا هما الفرات ورافده الخابور وليس دجلة, ومن الدول الأخرى فدان آرام (Padan Aram) وكان مركزها مدينة حران ( المعروفة تاريخيا) والتي تعني ( طريق ) لأنها كانت تقع على طريق تجاري عظيم, وقد أصبحت أعظم مراكز الحضارة الارامية.
بالعودة الى كتاب (د. كامل مراد – تاريخ الأدب السرياني ) وفيما يتعلق بالحديث عن نفس الفترة, يذكر فيه أنه عندما قام النزاع بين الفرس والروم , شاء القدر ( كما أراه يشاء اليوم ) أن تكون بلاد الآراميين مسرحا له,فهي حينا في ايدي الفرس وحينا في ايدي الروم, وتخرب الحرب بلادهم ( يعني من يوم يومك يا زبيبة….. ) فيتأثرون بحضارة الفرس وحضارة الروم وثقافاتم , وبذلك يصبحون ورثة الحضارات الآشورية والبابلية والفينيقية والفارسية واليونانية ولكنهم ايضا كانوا يضيفون عليها نوعا من التطوير .
ولكن, أهم ما في موضوعنا والذي أود التأكيد عليه, هو أن لغتهم كانت تفرض نفسها على سائر اللغات بقوة مميزة , فأبادت اللهجات الأكادية والكنعانية, وكان مكمن قوتها ينطلق من بساطة أبجديتها وسهولة نحوها وصرفها, لهذا كانت الآرامية لغة الأقوام العمليين والعاملين في حقل التجارة واللذين كانو موظفين أكفاء في البلاط الفارسي فأعانوا الفرس عى إدارة امبراطوريتهم.
لم تكن الآرامية لغة الإمبراطورية الفارسية فحسب وانما كانت لغة دولية – كما هي الإنكليزية في عصرنا الحاضر– إن صح التعبير – لأنها أصبحت اللغة العامة للتجارة والثقافة , واللغة المستخدمة في البلاط الملكي في منطقة الهلال الخصيب كلها بالإضافة للإمبراطورية الفارسية بل وأصبحت اللغة التي يستعملعا سكان البلاد في كلامهم في جميع الممالك السابقة الذكر في مرحلة تاريخية معينة, لدرجة أن نفوذ اللغة الآرامية ظل قويا حتى بعد زوال نفوذهم السياسي, فلقد ظهر في بلاط (تفلات فلاسر الأول) الملك الآشوري والذي هزم الآراميين سنة (731 ق.م ) كتاب آرامي يدون بالآرامية الغنائم المأخوذة من إحدى المدن المفتوحة.وجميعنا يعرف ان اللغة الآرامية كانت سائدة في فلسطين زمن السيد المسيح في عصر الإمبراطورية الرومانية والتي قامت على جسد الإمبراطورية المقدونية.. مع كل نفوذ اللغة اليونانية وعلوم اليونانيين.
وحتى حين انتقل الحكم الى الفرس, بقيت اللغة الآرامية اللغة الرسمية للإمبراطورية ولا سيما في عهد (دارا الأكبر)(521-486 ق.م) المعروف تاريخيا بإسم (داريوس الكبير) والذي امتدت مملكته من الهند حتى الحبشة وهو الذي جعل اللغة الآرامية اللغة الرسمية للامبراطورية, وكذلك أيضا في عهد السلوقيين والغربيين والساسانيين فأصبحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية, وانتشرت ايضا في شمالي جزيرة العرب حتى حدود الحجاز وذلك منذ القرون الأولى من ميلاد المسيح, وظلت حتى القرن السابع منه.
ولقد كان من آثار النفوذ الذي اكتسبت اللغة الآرامية أن عرب الشمال أخذو ابجديتهم التي كتب بها القرآن من الآرامية التي استعملها الأنباط, كذلك حصل الأرمن والفرس والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية ونعلم من الكتاب المقدس (سفر الملوك الثاني26:18) و(أشعيا 11:36) أنه لما حاصر سنحريب بيت المقدس في عهد حزقيا كان الشعب يتكلم الآرامية وكانت ارستقراطية اليهود تعرف الآرامية وكان موظفو سنحريب الكبار جميعا يعرفونها أيضا.
وقد تبع انتشار الآرامية واتصال أصحابها بغيرهم من الأقوام أن تولدت لهجات عدة يمكن أن نميز بينها تبعا لإختلاف الزمان والمكان والدين والحضارة, فقد تم اعتبار اللهجات الآرامية القديمة هي قسم بذاته لتقاربها الشديد, وهي لهجة ( زنجرلي ) ثم الآرامية التي استعملها الفرس في دواوينهم الملكية والتي يسميها العلماء الآن ( بالآرامية الدولية ) ثم آرامية اوراق البردى التي وجدت في ( جزيرة الفنتين ) بأسوان جنوبي مصر, وهي آرامية الكتاب المقدس.
نستطيع بعد ذلك أن نقسم اللهجات الآرامية الى : شرقية وغربية.
اما الشعبة الشرقية فتضم لهجة الرها الآرامية وكان موطنها في منطقة ما بين النهرين وسميت بعد ظهور المسيحية (بالسريانية ), ثم اللهجة الآرامية اليهودية البابلية وهي لهجة التلمود البابلي, كان موطنها شمال العراق , ثم لهجة الصابئيين الآرامية وهي اللهجة ( المندعية ) وموطنها جنوب العراق.
أما الشعبة الغربية فتضم دويلتين لسانهما آرامي وهما تدمر و النبط والتي وصلت الينا لغتهما عن طريق النقوش فقط بالإضافة إلى ثلاث لهجات أدبية هي أولا : اليهودية الغربية المقدسية والجليلية والسامرية ثم الملكية الآرامية وأخيرا الفلسطينية المسيحية.
أقدم ما وصل إلينا من الكتابات الآرامية مستخرج من حفائر زنجرلي وهي عاصمة مملكة سمأل وهي الآن قرية في شمال سوريا بالقرب من عنتاب شمال حلب وايضا كتابات القبور في النيرب قرب حلب أيضا والتي ترجع للقرن السابع قبل الميلاد.
وقد وجدت بعض الكتابات في تيماء بنجد شمالي جزيرة العرب وهي عبارة عن صورة لكاهن مع نقشين باللغة الآرامية ترجع الى القرن الخامس ق.م .(نصوص النقشين موجودة ومترجمة).
أما الكتابات الآرامية الدولية فأشهرها كتابة موقع ( بهستون ) على الطريق ما بين بابل و همذان , (510 ق.م ) والمعروفة عالميا في وقتنا الحالي بإسم ( نقش بهستون) وهي عبارة عن نقوش تمت كتابتها بأمر من الملك الفارسي ( دارا الأول ) والتي يؤرخ فيها لأعماله وتأسيس دولته و حروبه وانتصاراته بثلاث لغات ( الفارسية القديمة – العيلامية – البابلية) , ثم عندما أراد نشرها في جميع أرجاء الإمبراطورية أمر بترجمتها الى الآرامية وارسالها الى جميع الجهات وقد تم اكتشاف واحدة منها في أسوان, بالإضافة الى كتابات البردى في الفنتين بأسوان – القرن الخامس قبل الميلاد, والتي ترجع الى اليهود والآراميين الذين تواجدو هناك في هذه الفترة والذين كانو يكتبون باللغة الآرامية , و يزيد عددها عن ثمانين قطعة من الأوراق وتشمل على عقود زواج وعقود بيع وقوائم وقصص ومن بينها قصة (أحيقار) الواسعة الإنتشار والتي تحوي بعض الحكم الاشورية والبابلية والمكتوبة باللغة الآرامية – (وللعلم فإن أحيقار هو كاتب الملك سنحاريب وحامل اختامه –وسنحاريب الملك الآشوري المشهور تاريخيا بحبه للعلوم والثقافة بطريقة يفتقر لها إنسان عصرنا .. والمعروف ايضا بأنه منفذ السبي البابلي الأول – أما الثاني فقد نفذه نبوخذ نصر ) .
ومن الجيد الإشارة إلى أن بعض أجزاء التوراة قد كتبت باللغة الآرامية مثل سفر عزرا وسفر دانيال وهذا يدل على مدى انتشار الآرامية في عصر الفرس حيث من المعروف ان اليهود كتبو توراتهم في بلاد فارس في مرحلة السبي الفارسي من تاريخهم وفي عصر ( داريوس الكبير – دارا نفسه – الذي اشتهر بتساهله واللين بالتعامل معهم فسمح لهم ببناء كنيست وكتابة كتابهم الديني للمرة الأولى في تاريخهم), وقد أطلق على آرامية الكتاب المقدس اسم الكلدانية.
بدأ نجم اللغة الآرامية بالأفول (كلغة رسمية ولغة كتابة متداولة) باستيلاء الإسكندر الأكبر على بلاد الشرق,وانتشار النفوذ اليوناني ولغتهم وعلومهم .. ثم قدوم الأمبراطورية الرومانية من بعدهم وسيطرتها على هذا الجزء من الشرق .
ولكن …. بقيت الآرامية في هذه الفترة لغة الشعب ولسان العامة وأداة التفاهم في شؤون الحياة , لهذا كان السيد المسيح يتكلم الآرامية في فلسطين مه انه من جذور عبرانية , يعيش في عصر الأمبراطورية الرومانية القاءمة بعد عصر الأمبراطورية المقدونية اليونانية.
من الجيد الذكر ما ورد في كتاب فراس السواح في (آرام دمشق واسرائيل في التاريخ…) :{ لقد شمل المدى الجغرافي للثقافة الآرامية المنطقة الممتدة من حدود الهند والصين الى البحر المتوسط في ما يدعوه المؤرخ أرنولد توينبي بــ (العالم السوري) }.
أخيرا.. إذا كان هذا هو شأن الآراميين وحضارتهم .. فإنه يرد الى الذهن السؤال : من هم السريان وأين تواجدو في التاريخ .. هذا ما سنتحدث عنه في البحث القادم بإذن الله.
المراجع:
– تاريخ الأدب السرياني (د. كامل مراد, د. محمد حمدي البكري, د. زكية محمد بشرى.. جامعة القاهرة – كلية الآداب )
– تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ( د. فيليب حتي, دكتوراه في اللغات الشرقية – 1915 – جامعة كولومبيا الأميركية, وأستاذ فيها ,ثم رئيس قسم الدراسات الشرقية – جامعة برنستون – الولايات المتحدة الأميركية)
– السريان والحضارة الإسلامية (د. الشحات السيد زغلول, جامعة الإسكندرية, كلية الآداب )
– فراس السواح..آرام دمشق وإسرائيل.. في التاريخ والتاريخ التوراتى (1) –
– د.احمد داوود, تاريخ سوريا الحضارى القديم..تصحيح وتحرير (جامعة دمشق)
– لقاء مطول مع نيافة المطران يوحنا ابراهيم(مطرانية حلب للسريان الأرثوذكس.) .. حول السريان ودورهم تاريخيا في الحضارة العربية..قناة النور التلفزيونية.
بقلم صبحي بشارة.