جـولــة فــي ربــوع الـحَــفـَـر
بلدة الحفر :هي إحدى قرى محافظة حمص، تقع جنوبي شرقي حمص على بعد /65/ كيلو متر. ترتبط إدارياً بناحية صدد على مسافة/7/كم جنوباً. وهي على بعد/6/ كيلو مترات من حدود محافظة دمشق، وتفصل بينها وبين العاصمة مسافة/110/ كم.مساحتها واسعة تقارب/170/ كيلو متر مربع، وترتفع عن سطح البحر/1000/ متر مناخها صحراوي يكاد يكون مختصا بها وبالقرى التي تعلوها جنوباً وتليها شمالاً في الوادي المعروف بوادي حمَيّد بتشديد الياء وكسرها.مناخها جاف وبارد وأمطارها قليلة لأن موقعها الطبيعي في نقطة متوسطة في أواخر القلمون
غربها يمتد جبل لبنان الشرقي وشرقيها يمتد جبل المدخن. أما السهل الذي تتمدد عليه هذه القرى ومسارحها بدءاً من النبك إلى بلدة صدد فلا يزيد عرضه عن العشرين كم. تجري في هذا المجال الإقليمي رياح باردة صباحاً قالت بلسان أهل الريف: “إنني أنفُذ من مئة عباءة صدية”.وفي العصاري تجري رياح شمالية لاسعة ولكن ليست كالجنوبية، هذه الرياح المعاكسة كل بدورها تقذف الغيوم المطلة من أعالي الجبال الغربية المحملة بالمطر، تقذفها شمالاً وجنوبا فلا ينزل المطر على هذه القرى إلا نادراً. وعند اشتداد فعالية الطقس تكون طوفاناً يجرف كل ما يعترض طريقه كما جرى في عام 1937
تدفقت المياه سيلاً عرمرماً في 27 تشرين أول فوصلت إلى الحفر وارتفعت “75 سم ” في الشارع الرئيسي إلى أن تمكن السيل من جرف الجنائن فأخذت المياه مجراها وكان عرض المياه 200 متر وارتفاعها يزيد عن خمسة أمتار قال فيها شاعر القلمون سليم دعبول لما مرت في دير عطية وجرفت البيوت بمن فيها: جاءنا طوفان في هذا الزمان يا بني الإنسان أين لكم فرار يا ليت فينا مثل نوح صالـحاً وأتـاه من رب السما إنـذار كنا صنعنا الفلك وركبنا بــه ننجو ولا تلحق بنا الأضرار مر هذا الطوفان فجرف الجنائن وجانباً من القبور وترك الأحياء ومساكنهم ورمى بجانب القرية الصخور الكبيرة شاهدة للعبرة والتذكار.

آ- موقعها الطبيعي:
تتربع الحفر في بقعة فريدة متميزة. فهـي إذ تتجه شرقاً لاستقبال أول أشعة للشمس تخرق تخوم بادية الشام لتطبع قبلة الصباح على جبينها، تكون قد انحدرت إليها من آخر مرتفع- جبل الحفر- وبهذه الوضعية تكون القرية قد وضعت قدمها اليمنى في أراضي محافظة دمشق،وقدمها اليسرى في أراضي محافظة حمص، واتكأت بمرفقيها على أنف بادية دمشق، وأراحت ظهرها- بهدوء وطمأنينة على آخر كتلة تدحرجت عن سلسلة جبال لبنان الشرقية، وهو مرتفع معروف باسم ” جبل الكودن ” الحد الفاصل بين الحفر و ” قاره ” المتربعة على سفح جبل ” حليمه ” آخر سلسلة الجبال الشرقية للبنان، و ” حليمة” قمة هذا الجبل تظل معممة بالثلوج أكثر أيام السنة، وتظل تبعث بهبات باردة من أنسامها طوال أيام الصيف فتجعل من القرى الواقعة لجهتها الشرقية مراكز اصطياف ممتازة.
وفي الحفر توقيت محدد ومتزامن لجهة هبوب الأنسام في الصيف. فمنذ منتصف الليل وحتى التاسعة من صباح كل يوم تكون الأنسام جنوبية تنساب إليها من ثنايا جبال القلمون ، ثم تبدأ بالهبوب من الجهة الغربية كما أسلفنا حتى حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر، حيث تصير بعدها شمالية غربية محملة بالندى، وتخف حدة جريانها بعد الغروب، ولا سيما إذا انتشر الضباب الصيفي الرطب حتى عودة النسمات الجنوبية. والألف متر التي تعلو الحفر على متنها تجعل من هذا الارتفاع فوق سطح البحر مؤشراً على ما تتمتع به من جو لطيف في الصيف، ولكنه يكون ” قارساً وقاسياً وعنيفاً أثناء الشتاء .
وفي أشد أيام القيظ حرارة (تموز- آب) لا يستطيع المرء أن يخرج في الليل إلى شأن ما دون أن يتدثر بلباس، صوفي ثقيل. ومن المحال أن يغفو في فراشه إلا تحت غطاء سميك.

ب- الواقع التاريخي:
كما الثابت أن هذه القرية مغرقة في القدم، يعيد بعضهم عمرها إلى الألف الثاني قبل المسيح (4000 سنة تقريباً) ويستشهدون على ذلك بالأمور التالية:
ا- إن الوادي الكبير الذي تجري سيوله الموسمية عند مربضها شرقاً والمعروف حالياً باسم ” وادي الحصى ” كان قديماً مجرى لنهر كبير جف بسبب العوامل الطبيعية، ويستدل على ذلك بوجود ترسبات وبقايا جذور الأشجار على حافتيه.
ومن المعروف أن هذه المناطق كانت قديماً مغطاة بالغابات، وحدث المسنون أنه حتى مطلع هذا القرن، كانت الأسود لا تزال تعيش في سفوح التلال الغربية القريبة.
2- إن الساقية التي كانت حتى منتصف الستينات تجري جدولاً رقراقاً يفيض خيراً ورزقاً على الأهالي، والتي كانت سبب بعث الحياة في القرية مرة بعد أخرى ، إن هذه الساقية تجري في قناة . رومانية لا زالت قائمة، وهي تمتد مئات الأمتار تحت الأرض جنوباً .
3- في مقال للمؤرخ البحاثة المثلث الرحمات البطريرك أفرام الأول برصوم إشارة إلى أن الحفر هي القرية القديمة المعروفة باسم ” ذنبا “، بينما يشير بعضهم إلى أن ” ذنبا” هي قرية (مهين) التي تبعد 8 كم للجهة الشرقية. وسواء كان هذا أو ذاك فمن الثابت أن الحفر هي أقدم من مهين.
4- الطريق الرومانية الممتدة من تدمر حتى بعلبك وكانت تمر على التوالي في: القريتين- حوارين- مهين- الحفر- قارة، تم تتفرع إلى طريقين: واحدة إلى بعلبك ،و الثانية للجهة الجنوبية (دمشق- ريما) ولا تزال آثار من هذه الطريق شواهد ناطقة، والقسم الذي يمرر في “الحفر” معروف باسم ” سكة العفاريت “.
5- المرتفع الذي يقع على كتف هذه الطريق وهو أيضاً ضمن حدود “الحفر ” وفيه آثار لم يقم أحد بإجراء البحوث أو القيام بالحفريات اللازمة عنها ولكن بعض البقايا التي حملها الرعاة والفلاحون من قطع جرار وآجر وبقايا أفران. تؤكد على أن هذا الموقع هو محطة قديمة ” كنعانية ” ربما لاستقبال القوافل الذاهبة والعائدة بين تدمر وبعلبك.
اسم هذا المرتفع هو ” برجونوس ” (المعيصرة) وربما كان هذا الاسم رومانياً فيها أثار حوض مياه وقناة لإسالة المياه من الوادي يعتقد أنها كانت محاطة بأشجار الزيتون. تدل على ذلك المعمرة لصنع الدبس..
إن هذا الموقع جدير باهتمام مديرية الآثار علها تنفض الغبار عن حضارة جديدة في بلدنا الذي يغفو مطمئناً فوق صدر التاريخ.
6- الكنيسة الحالية : كنيسة مار برصوم التي أعيد. ترميمها في منتصف القرن التاسع عشر.
إن أساسات هذه البيعة وقسماً من جدرانها، هي بقايا لكنيسة قديمة من أقدم كنائس المنطقة بنيت عام 400 ميلادية، ولا يعرف متى تهدمت.تملك الحفر وفي كنيسة مار برصوم فنقيثان(الفنقيث هو كتاب يحتوي على النصوص التعبدية المطولة للكنيسة السريانية.) كتبا في حردين بخط اسقفها فيلكسينوس عام 1483 ثم بيعا إلى النبك 1514 ثم بيعا إلى الحفر 1909عن يد الشماس نعمة الجرجور”. قاعدة الكنيسة والأسس مصممة باتجاه الشرق تماماً بحيث انك إذا أسندت كتفك الأيسر إلى جدارها الشرقي، وتطلعت إلى الأمام وإلى فوق ليلاً ترى نجمة القطب. هكذا كان يريها المعلم للطلبة في الحفر.
وتنتهي حدودها من الجنوب الغربي بآثار مدينة قديمة جدا دارسة ولم يبق منها سوى آثار أساس ولم يعرف لها اسم لحد الآن مرجع تاريخي!! ج – الحفر الجديدة :
بقيت الحفر خراباً حتى العقد الثالث من القرن التاسع عشر لأن الحفر لم تذكر في رحلة فتح الله الصائغ الحلبي من 1810 – 1814 بينما ذكرت صدد عدة مرات. ححيث لم يكن لدى الأهلين الذين يملكون في صدد- ملكاً مشاعاً- الجرأة للابتعاد عن بلدتهم بسبب طغيان البدو والمتسلطين من قطاع الطرق وكان حكم المحتل العثماني أضعف من أن يستطيع حماية الأهالي.
وعام 1830 غزا إبرهيم باشا المصري هذه المنطقة وطرد الأتراك منها. وفرض هيبة الحكم والقانون، واستتب على عهده نوع من الأمن.
ويومئذ خرج عشرة شبان و أرملة تدعى شاهينة من بلدة صدد إلى موقع الحفر المتوضع تحت مشرع قناة رومانية وأنقاض عبارة عن أكوام ترابية لعلها اللبن المفتت الذي بنيت منه قديماً. وآثار خربة، تبين عند كشفها أنها أساس عليه جدران مهدمة. كانت تشكل بناء معبد معد ليكون كنيسة ربما نقلت حجارتها لتبنى في إحدى كنائس صدد وبواباتها، صدد هي البلدة الأم لجميع القرى المسيحية في المنطقة، وبدأوا يعملون على إزالة الأتربة وطمي السيول من مجرى الماء وأعادوا تنظيف القناة الرومانية. وبعد جهود جبّارة، تدفقت المياه وسالت في مجراها القديم لتروي الأرض العطشى…..
هؤل، عرفوا بعد ذلك باسم ” العشرة “ كانوا المؤسسين الجدد للقرية الجديدة.
كان ” العشرة ” مع شاهينة في بادىء الأمر يغادرون صدد بكوراً و يعودون إليها عند الغسق. وحين باشروا بزراعة الأرض وريها، باشروا بذات الوقت في تشييد المنازل وإنشاء الحظائر.
ثم انتقلوا نهائياً مع عائلاتهم إلى ” موطنهم ” الجديد وتوزعوا الماء والأرض القابلة للري والبناء فيما بينهم بالتساوي ، وبقيت الأراضي البعلية مشاعاً حتى اليوم .
قسموا الأرض إلى مناطق، وكل منطقة إلى عشر حصص، سموا كل حصة سهماً، فأصاب كل منهم سهماً واحداً من كل منطقة (حوالي القرية)، ثم قسموا الماء إلى عشر حصص وعشرة أيام، فنال كل واحد منهم يوماً كل عشرة أيام.
حصة الأرض سميت ” سهماً ” أما حصة الماء فأطلقوا عليها اسم ” عدّان ” وكانوا يقولون عن الذي يملك حصة كاملة: له نهار ماء.
وعند تأسيس الحفر الجديدة أطلقت صدد أول ” شلح ” عن القفير الأم ليشكل خلية جديدة في مملكة النحل.
فقد أطلقت صدد الكثير من أبنائها إلى كافة المدن والقرى في سورية القديمة المعروفة، فكان منها إضافة للحفر: زيدل – فيروزة – فحيلة – مسكنةوغيرها.
وكان منهما العديد من أكبر الأسر في حواضر سورية ولبنان.
في مطلع العام 1860 كانت القرية قد أصبحت تضم العشرات، وشعر الأهالي- مدفوعين بتقواهم وإيمانهم- أنهم بحـاجة إلى الخدمات الروحية التي كانوا مضطرين إلى الذهاب إلى صدد لتأمين بعضها.فاستثاروا همم بعضهم البعض، وأخذوا يتناقشون ويتدارسون موضوع بناء كنيسة. ودفعتهم روحهم العالية وقلوبهم الطاهرة إلى إعادة تشييد الكنيسة في موقعهما التاريخي وعلى هيكلها السابق. وكان ذلك بحد ذاته تحدياً كبيراً وبطولة رائعة، فحدود الكنيسة القديمة كبيرة جداً بالنسبة لعدد السكان يومئذ- (طولها 23 متراً ، وعرضها 10 م تقريباً ).
كان لإنجاز العمل ملحمة رائعة، فخلال أربع سنوات ونيف (1862- 1866) جند كل الأهالي أنفسهم لأداء أعمال البناء الصعبة، كانوا كلهم رجالاً ونساءً ، أطفالاً وشيوخاً يـؤدون أعمالا مختلفة ، كل حسب طاقته.
وحين استقامت الجدران (سماكة كل جدار من 100 – 125 سم والدعامات تزيد عن مترين لكل ضلع كان السقف هو المشكلة الصعبة.
فالسقف يجب أن ينشأ بطريقة ” العقد “ وهو أسلوب هندسي قديم، وتنفيذه يتطلب صاحب اختصاص، فاستقدموا معلماً لهذا الطراز من حمص، وكان هو العامل الوحيد الذي استعانوا به من خارج القرية و دفعوا له أتعاباً نقدية.
كان هيكل القالب يتطلب المئات من أشجار الحور الكبيرة والمتينة.
وكانت سلسلة الجنائن من رأس العين وحتى آخر البساتين مزروعة بأشجار الحور التي أصبحت بعد ثلاثين سنة تقريباً تناطح السحاب شموخاً وارتفاعاً.
وتنازل كل فرد عن كل شجرة مغروسة في أرضه دون مقابل. وتم تفويض المعلم بأن يذهب إلى مجرى الماء منذ أوله وحتى آخره، وأن ينتقي الأغراس التي تفي بالغرض ليتم قطعها ونقلها إلى موقع العمل.
كل فرد في القرية تبرع بما تمكن من التبرع به: المال، المواد العينية، والجهد والوقت…
وتم انشاء الكنيسة بمعجزة، وتنازل الأهلون عن أجزاء من ملكهم وأوقفوا للكنيسة ” عداناً “، وتوالى على الخدمة الروحية منذ العام 1866 وحتى اليوم هم:
1- الخوري عبد الله غزال الصددي ( من عام 1824 -1841 ) حيث كان يصلي بالرعية ويعود إلى صدد .
2 -القس هارون قسيس أو هارون بن نعمة بجور ( مجهول المولد – 1851 ).
3- القس يوحنا مرة ( 1815 – 1868 ) .
4- القس يوسف نصرالله ( 1820 – 1896 ) في عهده تجددت كنيسة مار برصوم عام 1882.
5 -القس حنا سعود ( 1844 – 1890 ) .
6- الخوري حنا طويل ( 1856 – 1940 ) .
7- القس بطرس جدعون ( 1872 – 1936 ) .
8 – القس أفرام بن جرجس دعاس ( 1890 – مجهول الوفاة ) .
9 – الخوري الياس جدعون ( 1919 – 1992 ) .
10 – القس عبدالله طفس .
11 – وبالوقت الحالي الاب الياس سطاح



د- الحفر في مطلع القرن العشرين:
منذ فجر هذا القرن، أصبح لهذه القرية شخصيتها المستقلة، وبدأ نبوغ أهلها ونشاطهم يبرز للعيان ويعطي ثماره .
واشتد ساعدها، فأخذت تتحدى الطامعين وتذود عن حدودها وكرامتها ضد المستغلين والغزاة وقطاع الطرق، فقد اضطرهم وضعهم إلى الاعتماد على النفس لا على الحكومة- والحكم عثماني- فمن الطرف التي تحكى أن بعض الأهالي شكا لرئيس مخفر تركي تعديات أحد قطاع الطرق حتى أنه قطع إصبع شخص ليسلبه خاتمه الفضي. وكان جواب رئيس المخفر، أنه سيقوم بواجبه، فما على الشاكي إلا أن يجيئه باللص موقوفاً إلى المخفر، وسيقوم (رئيس المخفر) بقطع رأسه فوراً.
في ظل أوضاع كهذه، عانى الأهالي ما عانوا من طمع الطامعين وتعدياتهم- يضاف إليهم طمع رجال الدولة وجهلهم وظلمهم – ولكنهم جالدوا وتحملوا ودفعوا عن أنفسهم الظلم والهوان، وأبوا الخضوع لنزوة الغازي وشراهة الطامع حتى عرف عن حدودهم المنعة والحصانة، وذاع لهم صيت واسع في الشجاعة والاستماتة في الدفاع عن العرض والأرض. ولهم مواقف مشهودة مجيدة سجلها الشعراء المحليون والزجالون في أشعارهم و أزجالهم.
كما اشتهر الحفريون بالجود والكرم رغم ضيق ذات اليد، وبالأنفه والكبرياء والاعتداد بالنفس إلى درجة الغرور . حتى إن البطريرك العلامة أفرام الأول برصوم وصفهم في مقالة قال فيهما:
” أرجلهم في الماء، و أنوفهم في السماء “. وفي مغناة مشهورة لغبطته مطلعها : يا رايحين لصدد، يصف أهالي الحفر بأصحاب المروءة والإباء.
” نادوا أهالي الحفر أصحاب المروة… “.
ورغم ذلك، فأثناء هذه الحقبة من الزمن، ولا سيما بعد ويلات الحرب الكونية الأولى، هاجر العديد من الشبان إلى الأميريكتين، وبشكل خاص إلى البرازيل والأرجنتين، حيث توجد حالياً جالية كبيرة من الحفر أو من أصل حفري.

هـ- الوضع الاقتصادي والزراعي:
التجارة، بمعناها الحرفي، كانت معدومة، اللهم إلا من بعض الأهالي الذين كانوا يبتاعون الصوف والصباغات من دمشق وحمص، ليتم غزلها وحياكتها محلياً، ثم يتم تسويقها. بواسطتهم عباءات صوفية وبسطاً.
أما الصناعة، فكانت رائجة منذ تأسيس الحفر وحتى أواخر العقد الرابع من القرن العشرين. وهي بالطبع صناعة يدوية بدائية. فقد كانت النساء يمشطن الصوف بعد غسله ويغزلنه ومن ثم يتم صباغه ونسجه عباءات او بُسْطاً (جمع بساط ) على أنوال بدائية يدوية، ثم تباع إما إلى تجار القرية المحليين، أو إلى التجار الأغراب الذين يفدون من دمشق وحلب وحمص.
وكانت فلسطين هي السوق الأهم لتصريف هذه الأنواع المصنعة. مع العلم أن هذه المهنة كانت رديفأ لمهنة الزراعة وليست رئيسية. فقد كان الأهالي يمارسونها بعد الانتهاء من العمل الزراعي، إلا إذا كان في العائلة الواحدة أكثر من عامل واحد.
وقد تلاشت هذه الصناعة تماماً تقريباً، إلا من عدد قليل من حائكي البسط . وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث قطعت الطرق إلى فلسطين، ومن ثم بدأت الأزمة الفلسطينية بالتفاعل بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و غزت الأزياء الأجنبية وخف الطلب على العباءات محلياً.
أما الزراعة، فقد كانت جيدة وأحيانا ممتازة ولا سيما في السنوات الغنية بأمطارها وثلوجها، وقد ماتت الزراعة أيضاً أو كادت منذ منتصف الستينات.
فقد أدى الجفاف واحتباس الأمطار خلال السنوات الأولى للعقد السادس إلى شح المياه الجارية وهزالها، وأدى سوء استعمال المحركات إلى انخفاض مستوى الأحواض المائية الجوفية، فجفت العيون ونضبت الينابيع وتوقفت المجاري والجداول، ثم يبس الشجر واستهلك حطباً. وقبل ذلك، كانت الأرض خميلة جميلة تتيه على صدر البادية بعنبها وتينها ورمانها وتفاحها والخ… وكانت مراعيها الطيبة تنتج الحليب المعروف بالدسم المعطر. وكان رعاة الماشية وأصحابها يحلمون بأن ترعى أغنامهم ولو لبضعة أيام أواخر الصيف، في الأرض المعروفة باسم ” خبراء ” حتى يستخرجوا منها السمن الزكي المتميز.
الزراعة الشتوية والبعلية: الحبوب- قمح- شعير- جلبان وبقول.
الزراعة الصيفية: الخضروات والبطاطا والشوندر السكري.
الأشجار المثمرة: الكرمة، وهي الأهم، ثم المشمش والتوت والجوز والرمان والتفاح والأجاص والتين والكرز والسفرجل والخوخ الخ…
وأرض الحفر البرية واسعة يسمونها أرض البعل. إنها تسمية قديمة في بلادنا لما نسبوا أرض البرية للبعل الإله السوري القديم وعندهم التقاديم والأراضي للبعل. فهو يسقيها بأمطاره لما استسقوه في دعائهم عندما كان البعل يعبد. وأرض البعل هذه تزيد مساحتها على “15000 هكتار” ما بين جبل لبنان الشرقي وجبال القلمون. وأرض البعل هذه تصلح للمراعي بالدرجة الأولى. لوجود نباتات رعوية تنمو في الإقليم الجاف والعديد منها يطول عمر جذورها فتظهر في زمن نموها منها الحرمل وهو نبات طبي منه يمتص النحل رحيق العسل،والاشنان ينمو ويزدهر في الصيف وأنبتوا مؤخرا نبات الرغل الرعوي للتجربة ويبدو أنه ناجح وتكثر النباتات العطرية في أرض البعل تحت الشمس المشرقة طوال العام ففيها الشيح والقيسوم والغضى والنباتات والأعشاب الطبية . أما الاشنان فاشتهر كمنظف لأنه غني بالمادة القلوبة. وقد ذكره الكتاب المقدس كمنظف ومطهر. ومبيض وقد ورد في إحدى النسخ المخطوطة للإنجيل أن بقعة من الإشنان موقوفة لإحدى كنائس صدد نظرا لأهمية هذا النبات حضارياً آنذاك. وفي سنين الخير والمطر تتشكل الكمأة الطيبة في أرض الحفر البعلية. وهي ليست بحاجة للتعريف. أما افخر محاصيل أرض البعل في الحفر فهو قمحها السلموني الطري المميز للخبز خاصة. أما في جبل الحفر فتظهر بعض أشجار العليق واللوز والتين الذي غرسه القدماء لكن قضى على هذه الأشجار الرعي الجائر وتعديات البدو والمحتطبين من محيي صحاري المراعي. ويمكن تجديد هذه الأشجار. وقد بدأت الدولة بهذا العمل الجبار كما في الحزام الأخضر وكما جرى في بلدة دير عطية بتشجير ارض البعل حتى الجبل وهذا حلم راود أهل المنطقة وشعراءها كالمطران ابيفانيوس الزايد الذي قال في قصيدته (القلمون). ولو أنـها تـحي وتسترعى لكا نت جـنـة الـدنيا بـلا استثناء ليت الحكومة أسعفت تلك القرى بـالغرس والإرواء والارعـاء
وبعد أن يبس الزرع وجف الضرع وبخلت السماء بخيراتها، اضطر الشبان إلى الركض وراء لقمة والتماس الرزق في بلاد أخرى، فذهب البعض إلى الجزيرة السورية، ورحل البعض إلى لبنان، ونأى البعض الثالث إلى الكويت، ثم فتحت السعودية ودول الخليج أبوابها واسعة، وتبعاً لذلك اتسعت الهجرة حتى أن عائلات بأكملها شدت الرحال إلى البعيد.
فإذا أضيف إلى هؤلاء: الموظفون الرسميون ومستخدمو المؤسسات و التجار و الأطباء والصيادلة والمحامون وغيرهم من المهنيين، أدركنا مدى مأساة القرية، وهي مأساة مصيرية: ” مأساة هجرة الريف إلى المدينة “.
وتجدر الإشارة إلى أنه بقي حالية صناعة محلية رائجة، هي صناعة السجاد التي أنشأتها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل منذ 25 سنة.

و- الوضع الاجتماعي :
الحفريون- وهم من أرومة واحدة- عاشوا و يعيشون حياة هادئة كريمة، فلا سيد بينهم ولا مسود، والشيء الوحيد الذي يعكر صفو الحياة الهادئة هو التنافس على وظيفة المختار، أو رئاسة جمعية، أو وضع اجتماعي معين، ولكن التنافس لا يصل إلى درجة التجريح، ولا يدوم أكثر من مدة محدودة ثم يزول.
وعاش الأهالي ولا زالوا يعيشون حياة اشتراكية بالفطرة. فقد كان ابن القرية الذي جاءها بعد توزيع الملكية، أو الذي فقد ملكيته لسبب من الأسباب، كما كان الوافد الغريب يصيبه من خيرات الأرض وعطائها مثلما يصيب صاحب الملكية الصغيرة وربما أكثر، فقد كان الأهالي يوافونه أثناء المواسم بقسم من الخضار والفواكه، وينقلون إليه بعد البيدر أو القطاف كميات عينية من الحبوب والفواكه المجففة وغيرها من إنتاج زراعي أو إنتاج حيواني.
ويتجلى التعاون في الدواعي الاجتماعية وفي مناسبات الأفراح أو الأتراح ، فان التقاليد الموروثة تقضي بأن يشارك المقتدرون والميسورون صاحب الدعوة في حمل بعض أعبائه.
ففي هذه المناسبة، يؤم الكثيرون من الأقارب و الأصحاب والمعارف والجوار دار صاحب الدعوة للمشاركة، ويرسلون له المواد التموينية: أرز، برغل، سكر، بن، خراف للذبح، الخ… وعند موعد انقضاض السهرة، يستضيف كل من الأهالي الموجودين عدداً من الضيوف، فيأخذونهم للمبيت لديهم، بحيث يصطحب كل فرد شخصين آو ثلاثة أو أكثر، ولا يبقى لدى صاحب الدعوى سوى العدد الذي يستطيع القيام بواجبه- على سعة- وأحياناً لا يبقى لديه أحد بقصد تأمين راحة أكثر للضيف وللمضيف.

ز – التعليم:
سنتحدث عن التعليم ، فنقول أن هذه القرية كانت من أكثر القرى بكوراً في طلب المعرفة. فمنذ مطلع هذا القرن، كان غالبية الأهالي يستطيعون القراءة والكتابة.
كان في قرية الحفر مدرسة بدائية في الكنيسة السريانية التي كانت تعلم المزامير وقراءة الكتابة السريانية وكانت أشبه ما تكون بالكتاتيب. ثم جاءت المدرسة الإنجيلية لتزود الحفر بالعلوم وبالقراءة العربية السليمة وبشرح التعاليم المسيحية. وكان قد قدم الكارزون الإنجيليون وبالتحديد الإرلنديون الذين ساروا على ظهور الخيل من مواقع بعيدة من بلودان. و كانوا يتسنمون الجبال العالية مابين يبرود والنبك .
يقول الأستاذ توفيق جرجور، المتخصص بتاريخ المنطقة والواسع الاطلاع على ماضيها:“إن مدارس الحفر كانت تمنح منذ عام 1910 درجة علمية تعادل الشهادة الإعدادية عهدئذ”، أنعم الله على الحفر وفي وقت مبكر بمدرسة وذلك قبل العام 1910 وكانت مدرسة الحفر مختلطة ومعلموها حرصوا أن يعدوا الطلاب للدراسات العليا.
ولئلا ننسى أحداً سنذكر جميع من عرفنا بأنهم كانو من معلمي الحفر حسب القدم في التعليم فأقول :
أول معلم من الحفر كان يسمى نفر موسى ضاحي (نصر) علّم في صدد بين عامي 1910 – 1920 م وعلّم في مدارس الارساليات التبشيرية الدنمركية والأميركية في زحلة ثم عاد للحفر وكان يذهب منها يومياً إلى صدد على ظهر الخيل ليعلم أبناءها هناك . و بعده أتى من المعلمين المعلم خليل جرجور وأخوه بطرس جرجور اللذان درسا في صيدا ومعهم المعلم موسى ضاحي. وكان هؤلاء المعلمون يقومون بخدمة الوعظ في الآحاد مبشرين بالمذهب البروتستنتي إلى جانب التعليم.
ومن المعلمين الحفريين نذكر أيضاً : حافظ نعمة جرجور – فرحان بنودي ضاحي وشقيقاه موسى واسطفان بنودي ضاحي ( 1907 – 1941 ) – جرجس موسى سركيس .
و كان أحد خريجي مدرسة الحفر القس أنطونيوس جرجور الذي تخرج من الجامعة الأميركية. ومنذ سنة 1920 بدأ المثقفون الحفريون يحملون علمهم ومعارفهم إلى مدارس القرى والمناطق المجاورة يدرسون الناشئة وينيرون أذهانهم.
ويذكر أهالي منطقة القلمون في النبك ويبرود ودير عطية وغيرها أن تعليمهم كان علي أيدي المعلمين والمعلمات الحفريين.
ومنذ مطلع 1930 أصبح في الحفر أربع مدارس واحدة منها للإناث..
في الوقت الذي كانت أكثر القرى التي تفوق الحفر عدداً، ليس فيها مدرسة واحدة. وربما كانت الحفر هي الأولى التي اهتمت بتعليم المرأة بحيث شهد رجال التربية في حمص أن هذه القرية كانت الأولى أيضاً في عدد المتعلمين، قياساً بعدد الأهالي، وربما كانت حالياً من أكثر القرى التي كانت لا تجد فيها أمياً واحداً حتى في العنصر النسائي، اللهم إلا المسنين الذين ولدوا في العقد الثاني من القرن العشرين، وما سبقه.
ومن المعلمات الحفريات نذكر : الآنسة فضة بنودي ضاحي ( تولد 1896) وكانت أول معلمة على مستوى القرى الصددية حصلت علومها في مدارس دمشق وكان سفرها إلى دمشق لتتعلم في ذلك الزمان موضع جدل بين مؤيد لإرسال فتاة وحدها للتعلم في دمشق ومعارض له . وبعدها ألس جرجور – فريدة ضاحي – هيلين جرجور – نورة نعمة جرجور – نبيهة ضاحي – منيرة مطانس جرجور – نبيهة ضاحي – منيرة جرجور – ليديا ضاحي – وهؤلاء المعلمات مارسن التدريس في الحفر ويبرود والنبك وصولاً للقريتين .
أول طبيب حفري هو المرحوم الدكتور بولس الطويل ( 1908 – 1974 ) الذي نال شهادته من جامعة دمشق عام 1939 وتخصص بالجراحة العامة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا عام 1948 . وهو الذي أسس مشفى المواساة في حمص مع شريكه المرحوم الدكتور شوقي الأتاسي . وأبناء الدكتور بولس مثقفين جامعيين وأدباء وأطباء .
ومن شخصيات الحفر المرموقة المرحوم الوزير السابق جهاد موسى ضاحي وهذه نبذة من حياته :
ولد في الحفر ونال شهادة الحقوق من جامعة دمشق عام 1954 . وقبلها اتهم عام 1952 بمحاولة اغتيال الرئيس أديب الشيشكلي رئيس الجمهورية السورية آنذاك . كما رافع في المحكمة ضد من اغتالوا العقيد عدنان المالكي . شغل منصب عضو في مجلس الأمة أيام الوحدة مع مصر . وأصبح وزيراً للمواصلات عام 1963 في أول وزارة قامت بعد ثورة 8 أذار .
سجن مرات عديدة بسبب مواقفه الوطنية . توفي في آذار 2001 عن عمر ناهز 73 سنة .
وأول موفد للدراسة خارج القطر السوري كان من قرية الحفر هو المهندس الجيولوجي عوض جرجور حامل وسام سوريا لاكتشاف الغاز في منطقة تدمر. أن ارض الحفر الواسعة ومدرستها المبكرة وتقدمهم العلمي جعل منهم رجالاً يتحدون ليقفوا في وجه أي طامع في أرضيهم أو حدودهم. وحافظوا مع صدد البلدة الأم على إيمانهم المسيحي وإنجيلهم. ذلك جعل البطريرك أفرام الأول برصوم عندما كان مطرانا في عام 1925 أن يقول فيهم: يا لرايحين الحفر أصـحــاب المروة فيهــم تروا ثمر ة العزم و القوة فيهم أصحاب النخوة وأهـالي الــفـتوة يا ما أحلى الاتـحاد ســــر الرجولية
وبكل فخر نشير إلى أن الحفر تتباهى كذلك بأنها ضحت على مذبح الوطن ودفاعاً عن ترابه المقدس بحفنة كريمة من خيرة أبنائها، وعددهم كبير قياساً بعدد سكانها، فقد استشهد من أبنائها نسور جو على رأسهم الشهيد موسى جربنده وضباط وأفراد كانوا من العناصر المبرزة في القوات المسلحة. وقد سجلهم وطنهم في سجل الخلود، وسجل أهلوهم من القرية كلها ذكراهم الطاهرة في صميم قلوبهم، وعلى لوح صدورهم، وهم بهم فخورون كل الفخر.

ح – الحفر حاضراً ومستقبلاً :
يهتم الحفريون ببناء البيوت فيمكننا القول إن كل عائلة أقامت بيتاً جديداً فيها ولا ننسى أن نذكر أن في الحفر أجمل القاعات الأثرية ذات الحجارة البيضاء المنقوشة والتي لا يضاهيها في القرى الصددية كلها أي بناء.
يقول المطران أبيفانوس الزايد في وصف بيوت بلدة الحفر:
ومنازل الحفر الفسيحة دورها لقِرى الضيوف ونجدة الغرباء
وعلى مياه القريتين وفي حمى صـــدد القديمة بلدة النبهاء
وشيدت فيها كنيسة التجلي للسريان الكاثوليك فصار عدد الكنائس ثلاثاً وكلها على مستوى جيد وللحفر رجال كثيرون متعلمون فيهم الأطباء والمهندسون والكتاب وأصحاب المهن والصناعات. والتجار في المدن السورية وفي المهجر وغالبيتهم يهتمون بالحفر قرية آبائهم وأجدادهم ويتوقع المتفائلون أن تمتد الأيدي الفاعلة الخلاقة إلى الجبل لتشجره على غرار جبل دير عطية ليتعاون الغابان معا باجتذاب الأمطار فيعود لمنطقتنا ازدهارها الذي بكاه الشاعر لما قال: “قفا بي نبكي بين قارة والنبك. عندما اقتطع السيل الكبير عام 1937 جانباً من الأرض على كتفي الوادي ظهرت آثار الجذور وقد تركت أماكنها فارغة فهل تعود تلك الغابات: إننا نعقد آمالا كباراً على رجالنا اليوم ليمهدوا ويعملوا بعون الله لهذا المستقبل، في عام 1990 تكامل بناء سد الحفر الذي بنته الدولة مشكورة. سعته . 400 الف م 3. وفي ايار 1993 امتلأ هذا السد لتترشح مياهه فملأت الابار وامتلأت ايضاً قناة القرية لتجري كما كانت قديماً حسب توقعات المتفائلين وانبجست ايضاً مياه عين صدد بعد غياب حوالي العشرين سنة.
هؤلاء أهل الحفر المتعلمون الكرماء. وهم الذين لا يعتدون على أحد ولم يتقاعسوا عن واجب نحو الوطن هكذا تراهم عند الملمات يقفون في وجه أي مهاجم وقفة الأسود يذودون عن إيمانهم وأرضه.
بقلم د. فايز زكور